رغم عديد التسريبات والتحليلات التي تستبعد إعادة فتح قانون الانتخاب مرة أخرى لمزيد من التعديلات، بما يراعي اعتراضات وتحفظات طيف واسع من القوى السياسية، فإن قراءة خريطة الساحة السياسية تشير إلى أن أغلب القوى والأحزاب، وصفا واسعا من الشخصيات والتيارات السياسية المحسوبة على "علبة" الحكومات، ما تزال تراهن على حدوث مثل هذه الانعطافة على مسيرة القانون، وبما يعبد الطريق لانتخابات نيابية كاملة الدسم، مع نهاية العام.
اقتصار جبهة القوى المقاطعة للانتخابات المقبلة، وفق محددات قانون الانتخاب المعدل الحالي، حتى على الحركة الإسلامية وحزبي الوحدة الشعبية والبعث العربي الاشتراكي، ومجموعة من الحراكات الشعبية والشبابية، أمر لا يجب أن يبعث على الطمأنينة أو الثقة لدى بعض التيارات السياسية الرسمية، التي تنافح اليوم وتقاتل لتمرير وصفتها "المتواضعة" لتحسينات النظام الانتخابي.
لا تصعب على أي حصيف ملاحظة أنه حتى كارهو أو رافضو خيار المقاطعة، والمؤمنون بأن المشاركة في الانتخابات والعملية السياسية أمر مبدئي وأساسي رغم أي تحفظات، لم يستطيعوا إلا التعبير عن حجم الصدمة والتحفظ على ما خرج به التيار الرسمي السائد من وصفة لأهم القوانين السياسية، والتي تعيد إنتاج نظام الصوت الواحد، مع بعض التحسينات الشكلية بإدخال القائمة الوطنية، بتواضع مقاعدها، بل والتحذير من الوصول إلى إجراء انتخابات نيابية غير دسمة، ومقاطعة من تيارات رئيسة، خاصة في خضم الربيع العربي.
وليس مستغربا حالة شبه التوافق الوطني الواسعة ضد حجم تعديلات قانون الانتخاب، وما تحمله من إصلاحات وآليات، وعدم الاقتناع بأنها تعديلات كفيلة بإخراجنا من الأزمة والاستعصاء السياسي. فالجميع، قوى وأحزاب سياسية وفاعليات شعبية ونقابية ومجتمعية، معارضة ووسطية وموالية، اكتوى بنار قانون الصوت الواحد، وما تسبب به من تشويه طويل للحياة البرلمانية، فضلا عما خلفه من انقسامات ومشاكل في البنى الشعبية والعشائرية والمجتمعية.
قد لا أبالغ في القول إن الأزمة اليوم تجدها لدى قوى وأحزاب سياسية ترغب وتؤمن بقوة ومبدئية بضرورة المشاركة في الانتخابات والحياة السياسية، بغض النظر عن التحفظات على القانون أو غيره. وربما كانت الأزمة أوضح لدى مثل هذه القوى عنها لدى الأحزاب والقوى التي سارعت إلى إعلان المقاطعة، انسجاما مع رفضها لقانون الانتخاب وحجم تعديلاته.
فأزمة المؤمنين بالمشاركة تنطلق اليوم من بعدين رئيسين: الأول، يتعلق بأن الحكومة والبرلمان تراجعا وانقلبا على كل توصيات وتوافقات لجنة الحوار الوطني وغيرها من لجان وأطر رسمية وشبه رسمية بشأن قانون الانتخاب. والثاني، يتعلق ببعد ارتفاع سقف مطالب الشارع وطموحاته السياسية في ظل الربيع العربي، وإيمانه بضرورة إحداث تغيير حقيقي في العملية السياسية والنيابية، وتجديد للنخب السياسية الرسمية، في وقت تأتي مخرجات النخبة الرسمية اليوم أقل بكثير من حجم هذه الطموحات.
يمكن للحكومة والنواب والتيار المحافظ أن يراهنوا اليوم على كل شيء، باستثناء أن قانون الانتخاب، بطبعته الأخيرة، يمكن أن يحرج ويؤزم فقط معلني المقاطعة؛ فأزمة القانون، ورؤية عرابيه، هي الأزمة بحد ذاتها التي تطال بشرورها الجميع.

الغد