السياسة الجنائية ( المفهوم و التطور )
جامعة سيدي محمد بن عبد الله للعلوم القانونية و الإقتصادية و الإجتماعية
2008-2007 السنة الجامعية :
مقدمة :
إن الجريمة ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالإنسان وعرفت منذ القدم ، وتطورت وتعقدت أشكالها وتنوعت مناهجها ووسائلها مع تقدم المجتمعات، ومع الثورة التكنولوجية والتقنية في العصر الحاضر أخذت ظاهرة الإجرام بعدا دوليا وأصبحت عابرة للقارات والدول، الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في الوسائل التقليدية لآليات العدالة الجنائية وفي القواعد المنظمة للتجريم والعقاب باعتبارها الأدوات الهامة للسياسة الجنائية( ).
لقد اختلف فقهاء القانون في تعريف السياسة الجنائية ، وتعددت التعاريف بتعدد المرجعيات الفلسفية والعلمية ثم الاتجاهات الفكرية والسياسية ، فقد عرفها الفقيه الألماني فويرباخ بأنها مجموعة الوسائل التي يمكن اتخاذها في وقت معين في بلد ما من أجل مكافحة الإجرام فيه " ، أما مهمة السياسة الجنائية عند فيلبو كراماتيكا هي دراسة أفضل الوسائل العلمية للوقاية من الانحراف الاجتماعي وقمعه.
أما هدف السياسة الجنائية حسب مارك أنسل هي الوصول إلى أفضل صيغة لقواعد القانون الوضعي وتوجيه كل من المشرع الذي يضع القانون الوضعي والقاضي الذي يقوم بتطبيقه والإدارة العقابية المكلفة بتنفيذ ما يقضي به الفضاء.
أما السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية فهي جزء من السياسة الشرعية ، وقد عرفها الدكتور محمد بوساق بأنها العمل على درء المفاسد الواقعة أو المتوقعة عن الفرد والمجتمع بإقامة أحكام الحدود والقصاص وغيرها. والتذرع لتحقيق الأمن بكافة الوسائل الممكنة في ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
وإذا كانت السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية وفي الاتجاهات المعاصرة تتفق في المضمون والأهداف نظرا لكون كل متهما يهدف إلى تحقيق الأمن وسلامة المجتمع ، إلا أنهما يختلفان من حيث الثوابت( ).
وإذا كانت السياسة الجنائية تتميز بخصائص وسمات منها خاصية الغائية والنسبية والتطور ، فإن لها فروع منها سياسة التجريم وسياسة العقاب وسياسة المنع.
وتعكس السياسة الجنائية المصالح الواجب حمايتها في الدولة والقانون هو الذي يحدد المصلحة الجديرة بالحماية من بين المصالح المتناقضة ، ولما كانت السياسة الجنائية هي السياسة التشريعية في مجال القانون الجنائي و توجه المشرع في اختياره للمصلحة الواجب حمايتها ، فقد تأثرت السياسة الجنائية بالفكر الفلسفي الذي ساد كل مرحلة . فإذا كانت السياسة الكلاسيكية قد تأثرت بشكل كبير بنظريتي العقد الاجتماعي والمنفعة الاجتماعية . انعكس ذلك على معيار التجريم والعقاب، الذي كان قاصرا على حماية المصلحة الاجتماعية ، فإن السياسة النيوكلاسكية تأثرت بنظرية العدالة وخففت من حدة الجمود والتجريد التي ميزت السياسة الكلاسيكية ( )
أما غرامتيكا فقد استعاض عن أفكار السياسة الكلاسكية والوضعية وأسس نظرية شاملة تعالج كلا من السياسة الجنائية والاجتماعية والنظام السياسي في الدولة ، قائمة على واجب الدولة في التأهيل الاجتماعي للفرد بدل حق الدولة في العقاب عن طريق تدابير الدفاع الاجتماعي .
ولم تأخذ سياسة الدفاع الاجتماعي الجديد بالمنهج الميتافيزيقي الذي أخذت به السياستان الكلاسيكية و النيوكلاسيكة ، وسلم مارك أنسل بوجود قانون العقوبات وحق الدولة في العقاب ، وذهب إلى تأسيس العقاب على مبدأ تأهيل المجرم عن طريق إصلاح قانون العقوبات وإدماج العقوبة والتدبير الاحترازي في نظام موحد.
أما في المغرب ، فقد مرت السياسة الجنائية بمراحل فقبل الحماية كانت الشريعة الإسلامية هي المطبقة ، ومع دخول الحماية ، تميزت السياسة الجنائية الاستعمارية بتمتيع الفرنسيين والأجانب بعدالة جنائية ، مددت مقتضيات القانون الجنائي والمسطرة الفرنسيين لتطبق على الفرنسيين والأجانب بالمغرب ، وبإخضاع المغاربة إلى نظام العرف بالقبائل ذات العرف البربري وإحداث المحاكم المخزنية والعرفية من جهة أخرى .
وبعد الاستقلال عرفت السياسة الجنائية عدة محطات ومرت بفترات مد وجز. وإذا كان قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 خص الأحداث بقواعد موضوعية و إجرائية خاصة ، فإنه سرعان ما تم التراجع عنها بظهير الإجراءات الانتقالية ، مع مطلع التسعينات من القرن الماضي ، ومصادقة المغرب على اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989، وإحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان قام المشرع المغربي سنة 2002 تعديل جوهري لمقتضيات المسطرة الجنائية ، وخص الأحداث بقواعد موضوعية وإجرائية، كما نص في المادة 51 من ق ج ج ج على إشراف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية وتبليغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها( ) لكن من يضع السياسة الجنائية إذا كان وزير العدل هو الذي يشرف على تنفيذها ؟ ثم ما هي مردودية السياسة الجنائية المغربية في مجال جنوح الأحداث مند دخول قانون المسطرة الجنائية حيز التنفيذ إلى الآن ؟
لإجابة عن هذه الإشكاليات ،سوف نعالج الموضوع من خلال التصميم التالي :
المبحث الأول : الإطار الفكري للسياسة الجنائية
المطلب الأول : السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية.
المطلب الثاني : السياسة الجنائية في المذاهب الفكرية
المبحث الثاني : التمظهرات والاختيارات الحديثة للسياسة الجنائية بالمغرب
المطلب الأول -سياسة التجريم والعقاب
المطلب الثاني : سياسة الوقاية والعلاج
المبحث الأول : الإطار الفكري للسياسة الجنائية .
تعتبر السياسة الجنائية عصب القانوني لكل دولة لدى تحاول هاته الأخيرة صياغة هده السياسة من خلال الاعتماد على الشريعة الإسلامية *المطلب الأول * إضافة إلى الأسس الفكرية المنظرة في هدا الميدان وخاصة المدارس التقليدية و الوضعية * المطلب الثاني *
المطلب الأول : السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية
إن التشريع الإسلامي بما يحتويه من مبادئ سامية يحقق التوازن بين التدابير الوقائية -الفقرة الأولى- و التدابير الزجرية - الفقرة الثانية – و يفسح المجال للقيم التربوية و الحوافز المعنوية لان تحتل دورها المتميز للحد من الجريمة و الوقاية منها وإصلاح المجرمين و إعادتهم إلى المجتمع و دلك في ظل سياسة جنائية متكاملة .
الفقرة الأولى : سياسة الوقاية و المكافحة .
ادا كانت الوقاية خير من العلاج كما يقال في حقل الصحة البدنية , فإنها أجدر أن تكون في حقل السلوك و العمل للأفراد و الجماعات وصحة العلاقات المتكاثرة فيما بينهم وصحة الحياة الاجتماعية بصفة عامة , وهدا ما يفسر توافر إلحاح الشريعة الغراء على وسائل الوقاية , بل مساحة كبرى من نصوصها و تعاليمها هي مخصصة للعمل الوقائي و في هدا برهان قوي على عظمة الشريعة الإسلامية و تفوقها في التشريع الجنائي .
وهكذا فقد نشأت في الشريعة الإسلامية الكثير من الأنظمة نشأت عنها مؤسسات تكون الميدان لترويض النفوس و تطبيع علاقاتها بحياة المجتمع و نظامه , فمؤسسة الأسرة في ظل نظام الزواج حين تبنى على أسسها الإسلامية , ويلتزم فيها بالأوضاع التي فرضتها الشريعة الإسلامية فإنها تكون مؤسسة دينية لها في الوقاية من الانحراف الدور الأول و الأساسي , ومؤسسة السجد في ظل نظام الصلاة هي مؤسسة عظيمة الفعالية في عملية الوقاية فمن أهدافه التواصل المستمر مع فئات المصلين الأخيار و الاحتكاك معهم و التأثر بخصالهم و مزاياهم .
وفي مجال الانحراف , نظمت الشريعة الإسلامية أنجع الوسائل و أكثر الأجهزة حزما و فعالية لحماية مجتمعاتها و توفير الأمن لهم , وهكذا انشات في حظيرتها نظم قضائية بالمعنى الأعم للقضاء و متشعبة الاختصاص, ومن هده الأنظمة ولاية القضاء بمعناه الخاص وولاية المظالم وولاية الحسبة وولاية الشرطة وهي داخلة في سلط الخلافة أو الإمامة العظمى .
فولاية المظالم: مؤسسة دينية ذات شان مهم, وتتبلور فيها بشكل قوي معنى المكافحة, لأنها تتصدى بصفة خاصة لمقاومة ما يمارس من الانحراف على صعيد رجال السلطة .
أما ولاية الحسبة فهي مؤسسة دينية مثلت على مدار التاريخ الإسلامي نشاطا ايجابيا و فعالية كبيرة في مقاومة الانحراف و ملاحقة المجرمين .
و ولاية الشرطة فقد ظهرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويقول عنها ابن خلدون في المقدمة *أنها وظيفة دينية كانت من الوظائف الشرعية توسع النظر فيها عن أحكام القضاة قليلا *
وقد قسم الفقهاء الشرطة الى ثلاث مراتب : الكبرى و الوسطى الصغرى و أقاموا هدا التقسيم على مقتضى الصلاحيات , فالكبرى تنظر في الجنايات و إقامة الحدود على من وجبت إقامتها عليه , و للوسطى مباشرة هده الإقامة للحدود و مباشرة إقامة التعازير و التاديبات , ولصغرى إعانة الحكام و أصحاب الدواويين فيما يريدونه من إلقاء القبض على المذنبين و المنحرفين و إحضارهم للعقاب .
الفقرة الثانية : سياسة التجريم و العقاب :
اختلفت أهداف العقوبة باختلاف الفلسفات و القيم التي سادت في المجتمعات كما أن ترتيب هده الأهداف و إعطاء الأولوية لهدف منها دون الأخر تعرض أيضا لتطور ملحوظ.
أما في الشريعة الإسلامية فان أهداف العقوبة ظلت كما هي مند نزول الشريعة, غير أن هده الأهداف تختلف باختلاف نوع العقوبة .
و يعرف فقهاء الشريعة الأقدمون العقوبات بأنها موانع قبل الفعل زواجر بعده و هدا التعريف يجمع بين هدفي الردع العام و الخاص , ويتعين حتى تكون العقوبة مشروعة أن تتوافر فيها خصائص ثلاث هي :
جرائم الحدود : وهي كما يعرفها الفقهاء المسلمون محظورات شرعية زجر الله عنها بعقوبة مقدرة تجب حقا لله تعالى , وقد اختلف الفقهاء في تعدادها , فبعضهم يجعلها سبع جرائم هي : السرقة و الحرابة و الزنا , القذف , و شرب الخمر و الردة و البغي , وبعضهم يجعلها ستة جرائم مستثنيا منها البغي , و آخرون يقصرونها على الجرائم الأربع الأولى فحسب و يعتبرون شرب الخمر و الردة جريمتين تعزيريتين .
أما جرائم القصاص : وهي التي تقع على اعتداء على النفس و تشمل جرائم القتل و الجرح و الضرب , و القصاص عقوبة محددة في القران و السنة و هي مقررة لولي الدم إن شاء أخد به فهدا حقه و إن شاء أخد الدية و إن شاء عفا
• جرائم التعازير و تشمل كل معصية لم تقرر لها عقوبة محددة في القران و السنة , و عرف بعض الفقهاء المسلمين العقوبة التعزيرية بأنها عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله تعالى او لآدمي عن كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة .
• و يكو ن للردع العم الأولوية في عقوبات الحدود و القصاص لدلك حرصت الشريعة على ان يتم تنفيذ هده العقوبات علانية و يرى الفقهاء أن علة التنفيذ العقابي هي منع الكافة من ارتكاب الجرائم
أما بالنسبة للعقوبات التعزيرية فالإجماع على أن التأديب و التهذيب هو الهدف الأساسي لها , فالأصل في الشريعة أن التعزير للتأديب , وبخصوص قاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص فانه لم يرد في الكتاب أو السنة نص بلفظه يقرر الاخد بهده القاعدة , غير أنها تستنتج بوضوح من بعض الآيات القران الكريم منه قوله تعالى ** و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ** و قوله ** لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل **.
و تفيد هده الآيات أن استحقاق العقاب في الشريعة الإسلامية توقف على سبق الاندار به , واستخرج الفقهاء منها قاعدتين أصوليتين تفيدان مضمون قاعدة لا جريمة و لا العقوبة إلا بنص و هما قاعدة لا تكليف قبل ورود الشرع وقاعدة ** أن الأصل في الأشياء الإباحة * , وقد طبق مضمون قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص * تطبيقا دقيقا في جرائم الحدود القصاص , أما جرائم التعازير فتوجد مرونة كبيرة في تطبيق القاعدة حتى يمكن مواجهة ما يطرأ من تغيير في المجتمعات الإسلامية
المطلب الثاني : السياسة الجنائية في المذاهب الفكرية .
إن البحث في الأساس الفكري لكل سياسة جنائية يضعنا أمام العديد من التساؤلات والافتراضات تصب من أساس حق الدولة في العقاب وفي صياغة قوانينها الجنائية،أو بتعبير أعم في صياغة سياستها الجنائية. وقد اختلفت مذاهب السياسة الجنائية في هذا الأساس بين مذاهب تقليدية لها تبريراتها (الفقرة الأولى )، ومذاهب وضعية لها بدورها أساس اعتمدت عليه في تبرير مبادئها (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: تمظهرات السياسة الجنائية في المذاهب التقليدية:
1 : مدرسة السياسة الجنائية التقليدية
أمام الوحشة التي كان عليها النظام الجنائي في العالم الغربي في القرن 18 والقسوة والحكم المطلق والتعسف الذي لا مبرر له،بحيث كانت للقضاة سلطة لا ضوابط لها تطغى عليها رغباتهم وأهوائهم، وكانت المساواة بين المواطنين مفقودة والتناسب بين شدة العقوبة وجسامة الجرم معدومة، وتعسف القضاة قد تجاوز الحدود وساد الهوى وصار قانون العصر( )، ظهرت المدرسة التقليدية للحد من هدا التعسف.
وقد صور مؤسس المدرسة التقليدية بكاريا الوضع السائد حينئذ بقوله :" من الذي حين يقرأ التاريخ لا ترتعد فرائصه من هول التعذيبات المتبربرة التي ابتعدعها أناس يعدون أنفسهم حكماء ونفذوها بأعصاب هادئة ، إن هذا الإسراف غير النافع في التعذيب لم يؤد أبدا إلى إصلاح البشرية"( ).
أمام هذا الوضع الوحشي والقاصي للنظام الجنائي السائد، تعالت أصوات كبار الفلاسفة والمفكرين متأثرين في ذلك بالنهضة الفكرية مثل جون جاك روسو ومنتسيكيو لتنادي بتغيير السياسة الجنائية السائدة وهو ما حدث بالفعل منذ أواخر القرن 18 ، وكان ذلك على يد مؤسس المدرسة التقليدية بكاريا صاحب كتاب " في الجرائم والعقوبات" التي تضمن أفكارا تهدف لإصلاح المنظومة الجنائية ونادى بالحيلولة دون تحكم القضاة وتعسفهم عن طريق سلبهم سلطة فرض العقوبات وطالب بإسنادها إلى جهات تشريعية( ) حيث يصبح دور القاضي هو تنفيذ القانون فقط وتطبيق العقوبات المتضمنة فيه دون أي اجتهاد، ويعد بكاريا أول من نادى بمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا نص الذي كان له مكانة عظيمة في السياسة الجنائية المعاصرة كما نادى بإلغاء عقوبة الإعدام.
وتتلخص المراجع الفكرية لفكر بكاريا في نظرية العقد الاجتماعي لجون جاك روسو التي تتلخص في التسليم بوجود المجتمع بادئ الأمر، وأن السلطة الحاكمة ليست إلا ممثلة له تتغير في الوقت الذي يشاء فيه المجتمع ، وما تملك هذه السلطة من حق العقاب يقوم على ما تنازل عنه أفراد المجتمع لهذه السلطة من حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم( ). وكذا الفلسفة الأخلاقية، والمنفعة الاجتماعية التي تتحقق باستتباب الأمن واستقرار الحياة عن طريق العقاب الرادع الذي يقضي إلى الكف عن الجريمة ، وقد نادى بنتام الذي هو أحد أقطاب المدرسة نظرية حساب اللذات التي تعني أن العقاب لا يكون رادعا ونافعا إلا إذا كانت بشدة الألم في العقوبة أكبر اللذة التي تعود على الجانب بفعل الجريمة، وقد تبنا هذه النظرية كل بكاريا وفويورباخ.
وقد كان للأفكار التي أتت بها المدرسة التقليدية أثر بالغ في ظهور مبادئ ومطالب إصلاحية في منظومة السياسة الجنائية تمثلت في الكف عن وحشية العقاب الذي ينافي إنسانية الإنسان ، وجعل المسؤولية الجنائية شخصية ومبنية على حرية الاختيار، وظهور مبدأ عرف له مكانة دولية ألا وهو مبدأ الشرعية من أجل الحد من سلطة القضاء المطلقة، وجعل العقوبة متناسبة مع الضرر الذي أحدثته الجريمة حتى يتحقق أهدافها المتمثلة في تحقيق الردع العام والخاص.
وعلى الرغم من مزايا أفكار المدرسة التقليدية إلا أنها أخذت عليها عيوب كثيرة كإفراطها في التجريد بحيث حصرت اهتمامها في الجريمة دون شخصية المجرم وظروف ودوافع ارتكاب الجريمة ( )، وكذا اعتبارها حرية الاختيار مطلقة ومتساوية لدى جميع الأفراد مع العلم أن الأشخاص يتفاوتون في دوافعهم وقوة الإدراك لديهم .
ومهما يكن من انتقادات فإن أفكار هذه المدرسة كان لها دون جد هام وتمظهرات على عدة مستويات في السياسة الجنائية المعاصرة إذ أخد مكانة مرموقة فيها، خاصتا بعد التعديلات أدخلت عليها مع المدرسة التقليدية الجديدة (الفقرة الثانية ) .
2 : المدرسة التقليدية الجديدة .
أمام النقص الذي عرفته أفكار المدرسة التقليدية ظهرت المدرسة التقليدية الجديدة لسد هذا النقص والإتيان بأفكار جديدة، وعليه فإن السياسة الجنائية الجديدة في شقها العقابي تعد بلا شك امتدادا للمبادئ التي قامت عليها المدرسة التقليدية القديمة، وعلى وجه الخصوص مبدأ حرية الاختيار ومبدأ العقد الاجتماعي. إلا أن هذه المبادئ جاءت في صيغة جديدة تفاديا للعيوب والنقص الذي تعرضت له. لكن ما هي يا ترى إضافات المدرسة التقليدية الجديدة من أجل تطوير السياسة الجنائية المعاصرة ؟
صحيح أن هذه المدرسة احتفظت بالأفكار التي جاءت بها المدرسة التقليدية، ففي مجال حرية الاختيار فإن هذه المدرسة اعترفت بها إلا أنها غير متساوية عند الناس لأن الحرية درجات تختلف باختلاف الأشخاص( )، وبناءا على ذلك فإن المسؤولية تكتمل إدا تمتع الجاني بحرية اختيار كاملة و تنقص بقدر نقص الحرية. وتفاوت حرية الاختيار يقابله المتفاوت في شدة العقوبة تبعا لمقدار حرية الاختيار تحقيقا للتناسب المطلوب لإقامة العدالة الجنائية ( ).
ولم تقف المدرسة التقليدي عند هذا الحد بل أتت بجديد في أساس حق الدولة في العقاب، إذ جعلت أساسها في ذلك هو تحقيق العدالة المطلقة وحدها التي نادى بها " كانت " لأن حرية الفرد تقف عندما تمس بحرية الآخرين، وقد ضرب لذلك مثالا بالجزيرة المهجورة: ومضمونه هو أنه لو أن فردا من شعب في جزيرة ارتكب جريمة تقتضي الحكم عليه بالإعدام ثم قرر ذلك الشعب التفرق و هجر الجزيرة لزمهم تنفيذ حكم الإعدام قبل التفرق تحقيقا للعدالة ولو انتفت المنفعة بحصول الأمن والاستقرار لعدم وجود المجتمع بعد هجر الجزيرة .
والجمع بين فكرة العدالة المطلقة ونظرية المنفعة الاجتماعية ينتج المبدأ القائل بأن العقوبة يجب أن لا يزيد على ما تستدعيه المنفعة من استقرار الأمن واستتبابه في المجتمع( ).
وقد كان لمبدأ أساس الحق في العقاب الذي أقرته المدرسة التقليدية الجديدة أثر كبير في إصلاح النظام الجنائي وبالتالي التأثير على مسار السياسة الجنائية.
فإقرار مبدأ تفاوت المسؤولية الجنائية من طرف المدرسة التقليدية الجديدة نتج عنه تفاوت العقوبات من حيث الشدة والتخفيف لتحقيق دواعي الأمن والاستقرار الاجتماعي سواء في المراحل التشريعية أي سن عقوبة تدون بين حد أدنى وأقصى، أو في مرحلة التقاضي بإعطاء القاضي حرية التقدير والتفريد العقابي، أو في مرحلة التنفيذ.
كما كان لمبدأ المزج بين المنفعة والعدالة أثر بالغ الأهمية إذ أصبح التفكير في المنع الخاص قبل المنع العام، كما اهتمت هذه المدرسة بشخصية المجرم وأولتها اعتبارا بالغ الأهمية في الوقت الذي كانت فيه مجهولة الهوية، و بمقتضاه تم إقرار نظام الظروف المخففة و المشددة و مبدأ التفريد العقابي الذي يعتبر من أهم مميزات السياسة الجنائية .
وبالرغم ما حققته السياسة الجنائية التقليدية الجديدة من انتشار، وتأثير على التشريعات العقابية ، إلا أنها لم تخلوا من مآخذ وغيوب مما فتح المجال لظهور مدارس وضعية جديدة كان لها دور هام في تطوير السياسة الجنائية إلى ما هو أحسن.
الفقرة الثانية :السياسة الجنائية في ضوء المدرستين : الوضعية و حركة الدفاع الاجتماعي
ادا كانت السياسة الجنائية عبر الاتجاهات الفلسفية قد تحددت و فقا لمبادئ ثلاثة : مبدأ الشرعية و مبدأ النفعية و مبدأ الحرية , فإنها عبر المدرستين الوضعية و الدفاع الاجتماعي اعتمدت الاتجاه العلمي الذي يرتكز على التجربة والملاحظة عوض التجريد , ولدلك سوف نقوم بدراسة السياسة الجنائية " أولا " عبر المدرسة الوضعية , ثم حركة الدفاع الاجتماعي
" ثانيا-".
أولا : السياسة الجنائية عبر المدرسة الوضعية :
إن الخط العلمي للسياسة الجنائية الوضعية أخد طريقه بفضل الأعمال الجليلة التي قام بها ثلاثة من رجال ايطاليا و هم سزاري لومبروزو صاحب كتاب الإنسان المجرم سنة 1876 , و انريكو فيري صاحب كتاب السوسيولوجيا الجنائية سنة 1881 و أخيرا رافيل جاروفا لوا صاحب كتاب علم الإجرام الذي ظهر سنة
فمثلا لومبروزو : من خلال كتابه السابق صنف المجرمين على أساس نوع الخطورة و تحديد تدابير الملائمة لكل صنف منها على النحو التالي :
-1- المجرم بالميلاد أو بالطبيعة .
هو مجرم بشع دو طبيعة خاصة عن الآخرين غير مبال بالمسؤولية , يتخذ في مواجهته تدبير استئصالي = الإعدام , النفي , الإبعاد إلى مستعمرة زراعية يعمل بها طوال حياته = هنا تبرز أهمية السياسة التي اعتمدها لومبروزو المثمتلة في الفكر الجديد ألا وهو الانسنة
-2- المجرم المجنون :
وهو الذي لا يفرق بين الخير و الشر و لا يميز طبيعة أعماله و نتائجها نتيجة لانعدام إدراكه , هدا النوع يودع في مصحة عقلية حتى يشفى من مرضه .
-3- المجرم المعتاد :
هو الذي يرتكب الجريمة بصفة متكررة حتى تصبح بالنسبة إليه شيء معتاد يستطيع القيام به في أي وقت , و يتخذ في حقه تدابير مثل المجرم بالميلاد .
-4- المجرم بالعاطفة :
هو الشخص الذي يرتكب الجريمة نتيجة أحاسيسه , و هو سريع الندم وقد يصل به الأمر في بعض الأحيان إلى الانتحار, و يتخذ في حقه تدبير الإقامة في مكان معين أو منعه من الإقامة في أماكن محددة .
-5- المجرم بالصدفة :
هو إنسان خال من رواسب إجرامية وإنما يرتكبها نتيجة خلل عضوي أو بسسب الفقر أو البطالة , ويتخذ في حقه تدابير الإقامة في مستعمرة زراعية أو صناعية .
أما فيري: في نظره الجريمة هي نتيجة لتراكم عوامل داخلية * العضوية و النفسية * وأخرى خارجية * اجتماعية اقتصادية *مرتبطة بالمحيط الذي يعيش فيه و تتميز نظريته بأمرين :
-1- اهتمامها بتأثير العوامل الاجتماعية في الإجرام
-2- تأكيد على تفاعل كل من العوامل العضوية النفسية و الأسباب الخارجية في ارتكاب الجريمة بحيث أن كل عامل من هاته العوامل تكون مجتمعة
أما جروفالو: يعتبر من أقطاب السياسة الجنائية الوضعية و هو يميز بين الجريمة الطبيعية و المصطنعة , وعلى ضوء هدا التمييز اعتبر أن المجرم الحقيقي هو الذي يرتكب الطبيعية , و الذي يقوم بسلوك أخلاقي ضار الذي ينضر إليه المجتمع بوصفه جريمة منافية لمشاعر العدل و الإنسانية تعاقب عليها القوانين الجنائية , وقد اقر بأهمية العوامل الداخلية في ارتكاب الجريمة , وينادى بضرورة التمييز المعاملة العقابية بين مرتكب الجريمة الطبيعية و الجريمة المصطنعة .
هدا عن السياسة التي اعتمدتها المدرسة الوضعية ,أما حركة الدفاع الاجتماعي سوف نقوم بدراستها "ثانيا".
ثانيا: السياسة الجنائية عبر حركة الدفاع الاجتماعي
نشأت هده الحركة سنة 1945 و هي مدرسة للدفاع الاجتماعي تهدف إلى حماية المجتمع و المجرم جميعا من الظاهرة الإجرامية بخلاف المدارس التقليدية التي حصرت معنى الدفاع الاجتماعي في حماية المجتمع من المجرم .
و من هدا التاريخ ظهر الدفاع الاجتماعي كحركة جديدة في السياسة الجنائية تهدف إلى الوقاية من الجريمة وعلاج الجانحين, و قد ظهر من خلال المناقشات و المؤتمرات الدولية أن هناك اتجاهين رئيسين في الدفاع الاجتماعي .
الأول : اتجاه جرماتيكا :
ويهدف هدا المذهب إلى إبدال نظام قانون العقوبات التقليدي بنظام للدفاع الاجتماعي , بهدف القضاء على فكرة الجريمة والجانح , والمسؤولية و العقوبة
و هده الأفكار القديمة يراد استبدالها بأفكار أخرى : وهي المناهضة للمجتمع , و الذاتية , و التدابير العلاجية و الوقائية .
و على هدا , فمذهب جرماتيكا يتضمن تغييرا كليا في نظم القانون الجنائي و الإجراءات الجنائية, و النظام العقابي .
و على هدا الأساس فجرماتيكا أنكر حق الدولة في العقاب و أكد على واجب الدول في التأهيل الاجتماعي , فإنكار حق الدولة في العقاب يعني في نضره تسلط الدولة على حقوق الفرد و الإنسان الذي انشأ الدولة , وبما أن الإنسان هو حر اجتماعي بطبعه وبدلك لا مجال لاعتراف بالجريمة و المسؤولية الجنائية , وقد ألح على ضرورة إصلاح الشخص المناهض للمجتمع و دلك من خلال التدابير الإصلاحية عوض معاقبته .
فطالما أن الدولة هي المسؤولية عن السلوك المنحرف و أن صاحب هدا السلوك كان ضحية ظروف اجتماعية غلبت عليه , فانه لا يحق للدولة معاقبته بل عليها واجب تأهيله عن طريق التدابير الاجتماعية , هده التدابير يجب أن تراعي مكانة الإنسان فلا يجب أن تكون قاسية و إنما يجب أن يكون هدفها هو الإصلاح و التأهيل , و يجب وضع ملف خاص لشخصية المنحرف اجتماعيا يوضع لدى القاضي حتى يكون على علم كامل عند تحدي التدبير الاجتماعي الذي يقضي به عليه و الذي يتلائم وتلك الشخصية .
من خلال هاته الأفكار يتبين أن جرامتيكا قد غالى حين طالب بإلغاء قانون العقوبات , و المسؤولية , وبصفة خاصة إهداره لمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات , علاوة على أن تجريده للجزاءات الجنائية من أي إيلام معناه إلغاء وظيفة العدالة و الردع العام و الخاص , ونقول أن هده الانتقادات أدت إلى ظهور حركة الدفاع الاجتماعي الحديث بقيادة مارك انسل.
الثاني : اتجاه مارك انسل :
أما الاتجاه الثاني فهو حركة الدفاع الاجتماعي الجديد التي يتزعمها مارك انسل و تقوم هده الحركة في جزء منها على بعض الأفكار الاتحاد الدولي لقانون العقوبات , فقد سبق للاتحاد الدولي لقانون العقوبات أن تبني ضرورة صياغة سياسة جنائية وقد كان " ليست" احد زعماء هده الحركة يقصد بدلك تكييف الجزاء الجنائي مع شخصية الجانح , وقد التقطت حركة الدفاع الاجتماعي هده الفكرة , ولكنها تعطي لفكرة السياسة الجنائية مفهوما أكثر اتساعا على ضوء المفهوم الذي قدمه أنصار الدفاع الجديد إلى الصراع ضد الجريمة بطريقة عقلانية و علمية اى بالاستفادة من جهود علوم الإنسان .
و بالنسبة للسياسة التي اعتمدها "مارك انسل" فانه يلتقي مع جراماتيكا في أغراض التدابير الجنائية المتمثلة في تهذيب و إصلاح المجرم وخاصة الحد , وان الطابع الإنساني ومراعاة أدمية المجرم و كرامته هو الطابع المميز لهده التدابير , و رغم دلك فان مارك انسل لا يتفق مع جراماتيكا في إلغاء قانون العقوبات و المجرم و العقوبة و المسؤولية الجنائية و غيرها من المصطلحات القانونية المسلم بها في التشريعات الجنائية المعاصرة , فمارك انسل يبقي على قانون العقوبات و المجرم و الجريمة , علاوة على أن أساس المسؤولية لديه هو حرية الاختيار المدعمة بالعناصر الشخصية , و يقول مارك انسل أن المجتمع عليه واجب محاربة الإجرام بوسائل عامة تقلل من فرص الوقوع فيه كمحاربة الكحول و المخدرات ووضع سياسة للرعاية و المساعدة الاجتماعية للأفراد .
و أن اتخاذ التدابير الاحترازية يراعي فيه العوامل العضوية و النفسية و الاجتماعية التي المجرم إلى الجريمة , و يجب أن تخضع هده التدابير لمبدأ الشرعية حماية للحقوق و ضمانا للحريات الفردية , لان هدف التدابير التأهيل و الإصلاح , و يتم تأهيل المجرم و إصلاحه بإحدى المهن أو تثقيفه أو علاجه ادا اقتضى الأمر دالك , وهدا معناه إنكار تحقيق العدالة و الردع العام كهدف من أهداف التدابير الاحترازية .
و ادا كانت السياسة الجنائية عبر المدارس الفلسفية قد تعددت فان السياسة الجنائية المعاصرة اخدت بأفكار هاته المدارس و لكن اختلفت عنها في نقاط كثيرة خاصة مع تطور الجريمة وتعدد أساليب ارتكابها في الوقت الحاضر( .المبحث الثاني )
http://www.mohamah.net/