بدأت التطورات الاقتصادية والاجتماعية تنبت أفكاراً ورؤى جديدة ما تزال في طور "الأجنة" أو "البذور" لكنها مرشّحة لإحداث تطور سياسي بنيوي إن أخذت مداها الطبيعي.
لا أغامر بهذه النبوءة، ولا أضرب بالرمل، إنما هي قراءة موضوعية تفرضها الصيرورة الحالية من التطور ويحكمها منطق تاريخي استراتيجي في ولادة التيارات والقوى من رحم التغيرات المجتمعية والاقتصادية والعلمية. فهنالك فجوة كبيرة وملحوظة بين واقع المجتمع وتحولاته وواقع السياسة.
من هذه الأفكار الوليدة، على سبيل المثال لا الحصر، ملامح ولادة تيار يُطلق على من يحملون مشروعه بـ"مشاعل المستقبل". هذا القول الجديد في الساحة السياسية المحلية ينتمي أبناؤه إلى جيل الشباب الرأسمالي في القطاع الخاص، يشعرون أنّ لهم دوراً سياسياً مطلوباً تمليه عليهم مصالحهم السياسية والاقتصادية التي ترتبط بوجود قوة سياسية تمثل الطبقة الجديدة وتعبر عنها داخل بنى النظام السياسي.
وإذا كان البعض يرى أنّ النخبة "المعولمة الشابة" التي تحتل مواقع متقدمة في النظام السياسي تمثل هذه الطبقة الجديدة، فإنّ أبناء هذه الطبقة لهم رأيٌ آخر؛ إذ يشعرون أنّ وجودهم يجب أن يكون بصورة ديمقراطية من خلال تمثيل سياسي مبني على واقع اجتماعي.
ما هو مُدهش بحق أنّ نخبة "مشاعل المستقبل" تستلهم مشروعها وطرحها الجديد من نموذج "الحريرية السياسية" في لبنان، وترى أنّ الشهيد رفيق الحريري هو حالة فريدة استثنائية في العالم العربي استطاع تجسير الفجوة بصورة ذكية وفعّالة ولافتة بين القطاع الخاص والاستثمار وبين النظام السياسي وصاغ مشروعاً وطنياً بامتياز، بما يتضمنه من أبعاد ثقافية واجتماعية وحضارية.
فلم يكن مشروع الحريري فقط تمثيلاً لطبقة اقتصادية إنما حالة وطنية حقيقية نهضت بلبنان وأعادت إعماره وانطلقت من المجتمع ومن خلال العملية الديمقراطية وصولاً إلى السلطة التنفيذية. وحمل الحريري معه نخبة مثقفة وفّر لها الظروف المناسبة للإبداع والاندماج بالمشروع الوطني من ناحية، وخلق فرص عمل وإنتاج ورعاية للطبقات الفقيرة الكادحة من ناحية أخرى.
يعتقد أصحاب "مشاعل المستقبل" أنّهم يمثلون القادم لا الماضي، وأنهم الانعكاس الحقيقي للحاجة لوجود قوى تحمل الشباب الأردني إلى الأمام وتملأ الفراغ الحالي وتخلق بُعداً وأُفقاً جديداً في الحياة السياسية.
في السياق نفسه، بدأ "منتدى الفكر الحرّ" نشاطات ثقافية، إن كانت إلى الآن ذات طابع نخبوي، إلاّ أنها تطرح موضوعات سياسية واقتصادية وثقافية جريئة. واللافت أنّ القائمين على هذا المنتدى هم مجموعة من الشباب الليبرالي في القطاع الخاص والمهني أيضاً، ما يؤكد أننا أمام إرهاصات لولادة أفكار ليبرالية لقاعدة اجتماعية نامية.
على الطرف المقابل؛ لتحفّز رجال الأعمال الشباب لولوج العمل السياسي، يدافع الزميل حسن الشوبكي في مقاله الأول من أمس عن ضرورة وجود حركة لمواجهة "غلاء الأسعار" في الأردن أسوة بمصر، وهي بالمناسبة فكرة آن أوانها وتفرضها طبيعة التحولات المصاحبة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي. وفي الوقت الذي تعجز فيه جمعية حماية المستهلك، لأسبابٍ جدلية، عن القيام بالدور المطلوب والمتوقع، وتقف -كذلك- مؤسسات المجتمع المدني بلا أي فعالية حقيقية، فإنّ الطبقات المسحوقة والمتضررة (من الغلاء وانخفاض القدرة الشرائية للدينار وما ينتج عن ذلك من تضخم وارتفاع خط الفقر) سوف تسعى للدفاع عن مصالحها وحقوقها، بل وجودها، ما سيظهر بالضرورة من خلال حركات كحركة لمواجهة الغلاء.
وإذا كان "المحبطون" يستبعدون ولادة مثل هذه الفكرة فإنّ إرهاصاتها ودلالاتها موجودة اليوم في حركة "ذبحتونا" التي تمثّل تعبيراً مدنياً ديمقراطياً سياسياً في الدفاع عن حقوق ومصالح شريحة واسعة من المجتمع "طلاب الجامعات"، الذين بدأت قدرتُهم على تحمل الأعباء السياسية والاقتصادية القاسية تتهاوى، فخرجت حركتهم من رحم معاناتهم.
من الأفكار الجديدة الوليدة حزب "الحياة" تحت التأسيس، وهو حزب سياسي يقوم مشروعه على تمكين الفئات والشرائح المختلفة المهمشة أو التي لا تحظى بالاهتمام السياسي والاجتماعي الذي تستحقه. وفي مقدمة هذه الفئات ذوو الاحتياجات الخاصة والنساء والشباب الصاعد، كما يُبرز الحزب اهتماماً واضحاً وملموساً بقضايا البيئة والتنمية والتأهيل الاجتماعي.
فكرة الحزب تقوم على أنّ المطلوب ليس الشفقة والحزن على الفئات المهمشة إنما منحها الفرصة الحقيقية للتعبير عن وجودها ومصالحها ومطالبها وإبداعها، ولا أقل من أن تبحث هذه الفئات عن دور حقيقي وفاعل في عملية صنع القرار والتمثيل في النظام السياسي.
بالتأكيد؛ الحل المناسب هو اندماج وفعالية ذوي الاحتياجات الخاصة في الأحزاب السياسية لا تكتلهم في تجمع واحد، وكأنهم طرف مستقل في المجتمع، إلاّ أنّ الواقع السياسي الحالي وضعف الأحزاب والقوى المختلفة يجعل من خيار تشكيل حزب مستقل هو المخرج الوحيد لتقول هذه الشريحة الواسعة "نحن هنا".
من جهة أخرى تمثل أفكار الحزب الحالية مقدمة لبداية اهتمام الأحزاب السياسية بالقضايا الحياتية التي تدخل في سياق "السياسات العامة" والالتفات إلى الجوانب الحيوية التي تؤثر على المجتمع والناس، لكنها لا تحظى بالاهتمام أو الجدل السياسي الكافي لدى القوى والأحزاب الحالية.
باختصار؛ الإرهاصات السابقة تمثل انعكاساً للصراع الاجتماعي الناجم عن التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وقد بدأت ملامح هذا الصراع تخرج على السطح وستكتسب مع مرور الوقت أوزاناً وتحتل مواقع معلنة، تخلق ديناميكية جديدة في العملية السياسية التي فرّغتها حالة الاستقطاب بين المؤسسة الرسمية والإسلاميين من مضمونها الحقيقي.

http://www.alghad.com/