قبل أيام (31/3) أعلن أمين عمان المهندس عمر المعاني، أن الأمانة باشرت بوضع مشروع قانون جديد خاص بها، ووصف الأمين مشروع قانونها الجديد بأنه "مستقل" عن قانون البلديات، وأن الأمانة شكلت فريقاً لإعداد القانون الذي سماه "بالقانون العصري"، وتوقع أن يرى النور مطلع عام 2011، أي قبيل دورة الانتخابات البلدية القادمة. ولما كنت أحد المطالبين بوضع مثل هذا القانون في مقال سابق، فإن هذا الاعلان شكل بالنسبة لي إشارة مريحة إلى أن الأمانة ربما بدأت تتعامل مع مهمة تصحيح الشذوذ الذي تعاني منه، والمتمثل في فقر مصادر الشرعية التي تحكم عملها. فإطار عمل الأمانة يستند إلى بضع مواد في قانون البلديات وضعت عندما كان الأردن يخضع للأحكام العرفية، وقد استهدفت هذه المواد القانونية تنظيم الانتقال من صيغة "أمانة العاصمة" إلى صيغة "أمانة عمان الكبرى" في ثمانينيات القرن الفائت.
يستدعي وضع قانون خاص بأمانة عمان الكبرى الشروع في حوار حول مضامين هذا القانون، وتحديداً الاطار المرجعي الناظم للعمل البلدي. إذ ليس جديداً أن نقول أن الدستور الأردني، عالج الشأن البلدي بمادة وحيدة، هي المادة 121 التي تنص على أن "الشؤون البلدية والمحلية تديرها مجالس بلدية أو محلية وفقاً لقوانين خاصة"، أي أن الدستور أحال تفصيل ذلك إلى القوانين التي يجب أن تصدر لغايات تنظيم العمل البلدي، ولم يقدم مبادئ موجهة لطبيعة البلديات والمجالس المحلية وأدوارها. ولذلك فإن من المفيد أن يسبق عملية إعداد قانون خاص بأمانة عمان الكبرى الشروع بإجراء حوار حول فلسفة الحكم المحلي ودور البلديات، في ضوء الخبرة المحلية الطويلة في هذا المجال، وكذلك في ضوء التطورات المعاصرة التي أرست مبادئ عرفت بالحكم المحلي الرشيد. وللأسف فان تصريح أمين عمان لم يلحظ أهمية إجراء حوار حول القانون المنشود، اذ اكتفى بالحديث عن تشكيل "فريق عمل" لهذه الغاية.
من المعروف أن نشأة البلديات في الأردن قد سبقت نشأة الدولة الأردنية بكثير (بعضها مثل بلدية إربد وجدت قبل نشوء الإمارة بأربعين عاماً)، وأن التشريعات الناظمة لاختيار المجالس البلدية وأدوارها قد وضعت بالتزامن مع النشأة الأولى للدولة الأردنية الحديثة (1925)، وتأثرت بالظروف السياسية والتقلبات والتحولات التي حكمت علاقة الدولة بالمواطن، وبفلسفة الحكم (قوانين البلديات لعام 1938 و1955)، وتعديلات الأعوام (1959، 1963، 1982 و 1994 و 2002). ورغم هذا المسار المتعرج الا أن البلديات تمتعت تاريخياً وحتى عقود قليلة ماضية بصلاحيات وأدوار لا تختلف كثيراً عما تقوم به البلديات في الدول الحديثة. فهي تشمل مختلف جوانب الحياة اليومية للمواطن، ما يفسر كثرة هذه المهام المنصوص عليها في قوانين البلديات المبكرة وحتى وقت قريب.
لكن البلديات سرعان ما فقدت الكثير من أدوارها الأصلية نتيجة النمو المتعاظم لدور وحجم الحكومة المركزية وتغولها واتساع صلاحياتها، في زمن شاعت فيه نظريات "الحكومة الكبيرة"، التي بررت المركزية المفرطة بدواعي التخطيط للتنمية والدخول في عمليات الانتاج والادارة الاقتصادية. ومما لا شك فيه أن الأردن كانت له ظروفه الخاصة التي استدعت (بالأحرى بررت) تضخم حجم الادارة العامة أو الحكومة المركزية فيه، منذ مطلع الخمسينيات وحتى وقت قريب.
فالحروب الاقليمية والهجرات السكانية وكذلك الصراعات العربية والاضطرابات السياسية الداخلية، كلها كانت عوامل تعجل وتستحث على تضخم أجهزة الدولة المركزية على حساب الحكم المحلي. وحتى المحافظين في محافظاتهم بدلاً من أن يكونوا عنوان "اللامركزية الادارية" ظلوا امتداداً لسلطات المركز وذراعاً لها على حساب البلديات التي تراجعت مهامها إلى الحد الأدنى.
لم تعد البلديات كما كانت يوماً، إطاراً مؤسسياً للديمقراطية المحلية وتجسيداً لإرادة المواطنين وممثلة لمصالحهم وتطلعاتهم، فقد اتخذت طابع التمثيل العشائري والجهوي، وباتت وسيلة لاعادة انتاج وتكريس الولاءات التقليدية ولتوزيع المنافع.
واستطراداً فإن وظيفة المراجعة التاريخية لأدوار البلديات في بلدنا، يقصد منها إعادة الاعتبار للطبيعة الأصلية للبلديات بصفتها مؤسسات أهلية، يدير من خلالها المواطنون شؤون حياتهم في حيزهم الجغرافي، وبالتالي فالمطلوب هو استعادة الصلاحيات والمهام المسلوبة منها على مر العقود الأخيرة.
وفيما يخص عمان، فقد يكون في مقدمة ما يجب التوقف أمامه هو استعادة أمانة عمان لتسميتها القديمة أو السابقة، أي باعتبارها "بلدية"، وهو الاقتراح الذي يكرره مؤخراً المهندس وليد المصري رئيس بلدية اربد الكبرى الأسبق، وأحد كبار موظفي أمانة عمان السابقين فيها. وفعلاً فقد آن الأوان لأن تستعيد عمان تسمية بلديتها السابق "لأمانة العاصمة" و"أمانة عمان الكبرى"، بعد أن غَرّبتها هذه التسميات عن أبناء عمان. فهم بحاجة إلى "بلدية" وليس إلى "حكومة مصغرة".
إن استعادة الأمانة اسمها القديم"بلدية عمان" لا يقلل من شأنها، بل بالحقيقة يعيد إليها هويتها الأهلية أو "البلدية"، ويحررها من التعالي والتمايز عن بقية البلديات. والحق مع م. وليد المصري حين يقول أن تعبير "الأمانة" غير مفهوم عربياً، وليست له ترجمة أو نظير في اللغات الاخرى. بدليل أن الترجمة الانجليزية لأمانة عمان هي ذاتها ترجمة لكلمـة بلديـة (municipality). ولذلك قد تكون أولى مهام القانون المنتظر لأمانة عمان الكبرى هو استبداله بكلمة "بلدية عمان" أو "بلدية عمان الكبرى".
من ناحية أخرى فإن المقدمة الطبيعية لوضع قانون خاص ببلدية عمان ليس تكريس ما هو قائم، وإنما فتح الباب أمام مناقشة تجربة أمانة عمان الكبرى، مناقشة رصينة ومتبصرة لا تتردد في تحديد الإيجابيات وتسمية السلبيات. إذ من المؤسف أن مجالس أمانة عمان وأمناءها السابقين لم يقوموا بمثل هذه المراجعة، ولم يشجعوا إجراءها، إن لم نقل انهم حالوا دونها.
وقد تكون في مقدمة قضايا المراجعة المنشودة وضع التوسعات المتعاظمة لحدود مدينة عمان، وضمها المزيد من المناطق والبلديات إلى نطاقها، تحت مجهر البحث والحوار. وقد أظهرت وقائع الحوار في "مؤتمر الديمقراطية المحلية في الأردن" الذي عقد مؤخراً، ارتفاع الأصوات المنادية بمراجعة فكرة دمج البلديات، ليس فقط على النطاق الوطني العام، وإنما أيضاً على صعيد المناطق التي تم دمجها في السنوات الأخيرة في أمانة عمان الكبرى. وهي العملية التي تمت بصورة قسرية وبوسائل إدارية محضة، بعيداً عن أي حوارات أو مشاركة لأهالي المناطق والبلديات التي تم ضمها إلى عمان الكبرى. وهنا لابد من التوقف أمام إشارة أمين عمان الى وجود توجه لدى الأمانة لخفض مناطق الأمانة (الـ27) الى 6 مناطق تنظيمية، وهو أمر لا نفهمه إلا باعتباره تعزيزاً للدمج والمركزية الإدارية. بينما المطلوب هو العكس، أي إعادة النظر في الدمج من حيث المبدأ، والحد من توسع حدود عمان الكبرى المفرط، ودونما سقف أو ضوابط.
قد يشكل وضع قانون خاص بأمانة/ بلدية عمان مدخلاً ومختبراً لمراجعة جذرية لقانون البلديات الحالي، الذي يشكل أيضاً الإطار التشريعي الناظم لأمانة عمان حالياً. وقد تكون هذه المحطة فرصة جديدة للاسترشاد بمبادئ وقواعد الحكم المحلي الرشيد عند وضع القانون العتيد لبلدية عمان، وهو ما يستحق مقالة مستقلة.

الغد