لا أحد في الكتلة الإصلاحية الوطنية، من مختلف التيارات والمواقف السياسية والاجتماعية، يريد أن نخرج من مسار تزييف الانتخابات، التي وصفت بها برلمانات المرحلة السابقة، إلى الدخول في تزييف الإصلاح بأكمله، بالتراجع نحو صيغ قانونية تفصّل لمصلحة جهة بعينها سيرا على منهج الاسترضاء السياسي الذي لا ندري إلى أين سيذهب بالبلاد.
قطع التوافق الوطني شوطا لا بأس به في إنجاز صيغة قانون الانتخاب الذي توافقت عليه لجنة الحوار الوطني؛ وهي صيغة لا أحد يزعم بأنها نهائية ومغلقة وكافية، بل كان من المفترض أن تكون أرضية مشتركة يتم على أساسها استكمال الحوار والخروج بالأفضل والممكن في هذه المرحلة.
إن صيغة القانون الذي أجريت استنادا له انتخابات العام 1989 لم تعد تلائم التطور السياسي والاجتماعي الأردني، والذين يريدون أن يعيدوا الأردن إلى أكثر من عقدين يتجاهلون مسارات طويلة من التحولات التي شهدتها البلاد والمجتمع، علاوة على أن القانون بحد ذاته يشوبه الكثير من الاختلالات الجوهرية التي تضرب مبدأ التمثيل في العمق؛ فهو أداة كفؤة لتصعيد الأقلية المنظمة على حساب الأكثرية.
على مدى العقدين المنصرمين، شهدت البلاد تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عملت على إضعاف التكامل السياسي والاندماج الاجتماعي. وهذه الحقيقة يجب الاعتراف بها بوضوح كي يمكن تشخيصها واقتراح الحلول الملائمة لها. ولما كانت الدولة في كافة تجارب بناء الأمة والمجتمع هي المصدر الأول والأساسي لتطوير أدوات التكامل والاندماج، فإن ضمان قانون الانتخابات النيابية المنتظر لصوت على مستوى الوطن سيشكل أحد المنطلقات لإعادة بناء المواطنة الأردنية على أسس متينة.
حينما فشل قانون الصوت الواحد في بناء مؤسسة برلمانية معافاة، تقوم بالحد الأدنى من وظيفتها الرقابية، تعايش الأردنيون عنوة مع أسوأ مراحل التستر على الفساد والفاسدين الذين استطاعوا أن يقفزوا في مرات عديدة إلى حضن الدولة على مرأى من هذه المؤسسة، ومن دون أن تحرك ساكنا؛ فلا تاريخ يكاد يذكر لمجلس النواب على طول هذه المرحلة وعرضها، ولا سجل يوثق إنجازات ملموسة في مكافحة الفساد وكشفه.
الصيغ القانونية التي يلوح بها حاليا ستعمل بنفس الآلية السابقة على مبدأ التهدئة، من دون أن تدخل في اختراقات تاريخية حقيقية. فالإصلاح الذي تنتظره البلاد حماية للدولة والمجتمع لا يأتي من خلال صفقات مؤقتة، وسيحرم البلاد من فرصة تاريخية. وكما حرم النظام الانتخابي وما أفرزه من ضعف سياسي، المجتمعَ والدولة من حلقة مهمة في بناء قدرة الدولة على تجديد النخب وتكريس منظومات الكفاءة والجدارة كقيم يحتكم اليها المجتمع، سيعمل النظام الذي يلوح به على تنميط المجتمع ودفعه مرغما لإعادة إنتاج القيم البالية، واستعادة الأطر المرجعية الأولية، وسيعمل على توريث النسيج الاجتماعي والمجتمعات المحلية سلسلة من العلل والأزمات.
إن السؤال الأردني الأهم في هذه المرحلة يتمثل في كيف نكيّف الإصلاحات في الإدارة المحلية والإصلاحات السياسية المنتظرة كأدوات للاندماج الاجتماعي، أي تطوير كفاءة الدولة على الصهر الاجتماعي والتكامل السياسي وفق فهم معمق لقوة الدولة، لا أن تكون القوانين والنظم والسياسات أدوات أخرى لإضعاف الدمج والتكامل. ووفق هذا الاستنتاج، فإن مسألة صوت الوطن، ولو بحده الأدنى، مسألة مصلحة وطنية حقيقية يقتضيها التطور السياسي والاجتماعي الأردني، وبغير ذلك سنحتاج إلى عشرين سنة أخرى من التجريب لنكتشف بعدها أننا خرجنا من تزوير الانتخابات إلى تزييف الإصلاح بأكمله.

الغد